بقلم :مصطفى الكتاب |
أمي هل اجديرية بعيدة من هنا؟
ـ نعم، ولماذا تسأل؟
ـ أليست هي بلدة خالتي ميمونة؟
ـ أنت تعلم أنها كذلك، لكن لم تجبني، لماذا تسأل يا حبيبي؟
ـ تواعدنا أنا وابنها محفوظ على قضاء أيام العيد المقبل هناك معها، هناك.
ـ ولماذا لاتأتي هي إلينا، وتحضر المحفوظ معها؟ ردت الأم ضاحكة.
ـ لا، وعدنا إبراهيم السالم بأنه سيعلمنا الرماية، وأنه يمكننا أن نصطاد الأرانب في واديها. أتعلمين ما اسم الوادي يا أمي؟ “كارا”، واصل الطفل أحمد ضاحكا ليقول: اسمه يعني الوجه باللغة الإسبانية، وكنت سأسأله إن كان الوادي المذكور يشبه وجه الإنسان أو الحيوان؟
ـ طوقت الأم طفلها بذارعيها، وقالت إبراهيم السالم يقال إنه جندي بأنه بارع في الرماية، ثم أدنته منها مبتسمة تقول: ستفعل إن شاء الله، وتمتمت حين أنهت معانقته “إن كان هناك عيد” يا عزيزي..
نظرت إليه يمشي فرحا وغير مبال بما حوله.. فلم تستطع منع عبرات ساخنة سالت على خديها.. ولم تنتبه لنفسها أنها كانت تكرر “سنتعلم الرماية.. سنتعلم الرماية بالنداق”.. فتدفقت عليها الهواجس من كل زوايا غرفة نومها .. زوجها الذي تأخر عن موعده الأسبوعي.. شقيقها الذي ودعها صباح ذلك اليوم ملتحقا بجبهة القتال.. صديقتها التي باتت تسمع صوتها عبر أثير إذاعة الثورة.. أهلها في القلتة.. جارها الممرض وزوجته اللذين انتقلا صوب آوسرد.. صديقات طفولتها في جنوب وشرق الوطن.. آه للعيون.. من لك يا مدينة البراءة وأحلام الطفولة.. يحاصرك العسكر الإسباني .. كل شيء فيك باهت وبلا لون .. أنت مسيجة بجدار حجري .. وأهلك مرغمين على الإبطاء في سيرهم .. في الليل، من يتجاوز العشرين كيلومتر الواردة في نص قرار الحاكم سالاثار، غرامته كبيرة.. ومن لا يوقد النور الداخلي في سيارته يتعرض للتوبيخ قبل التوقيف.. أما نهارك فهو ملبد بغيوم وسحب تمر مسرعة نحو الشرق.. الناس في الأسواق وفي الشوارع لا يلوون على شيء.. تحاصرهم علامات الاستفهام في البولكو، وفي الباريو.. في سوق لمخاخ كما في سوق الزجاج.. يمرون من أمام البارادور صوب أحياء كلومينات فيرونها دور قصيرة تحاصرها بركة أم السعد، فينحرفون في اتجاه الزملة فتتراءى لهم دماء مذبحتها صارخة مطالبة بالعدل.. فينسون العيد الذي بات على الأبواب.. لتنبههم تساقطات مطرية بل وتجبرهم أحيانا على التوقف ليشخصوا بأبصارهم نحو السماء بحثا عن أفق أوجواب، لكن سحبها المسرعة تجعلهم يحسبونها دموع فراق ووداع تقطر في صمت..
نهضت عيشة من مكانها واقتربت من نافذة مطبخها لتغلقها فتناهي إلى مسامعها حديث في الشارع..
ـ أين وصلت مسيرة أهل لڭريمزات؟
ـ أنت تسألين عن هذا الجراد المتنشر، ولا تسألين عن القوات؟
يـ وما دخل القوات؟ ألم يقل كبيرهم الذي .. إنها مسيرة سلمية؟
ـ اصمتي يا مريم، أنت تهذين، وتصدقين ما لا يصدق؟
ـ ما قالته مريم صحيح، أنا سمعته بأذني وقرأته في الصحافة، لماذا تهزأ منها؟
ـ وأنت مثلها، كفى.. ألم تعلما بما جرى في اجديرية؟
اجديرية .. وطار عقل عيشة، مثلما انقبض قلبها فاقتربت أكثر من النافذة.. ثم تذكرت ابنها الصغير وخافت أن ياتي ويسمع ما يدور من حديث ذاك الخليط من الرجال والنساء المجتمع قرب نافذة مطبخها، فأسرعت إلى غرفته فوجدته غاطا في نومه، فأغلقت الباب بلطف وعادت مسرعة إلى مكانها لتواصل التنصت.. لم تتبين عدد الأشخاص ولا وجوههم، لأنهم كانوا يقفون في زواية مظلمة من الشارع..
ـ علمنا أن القوات المغربية اجتاحت اجديرية، وعاثت فيها فسادا.. في اليوم الأول لمجيئها، ساقوا أهل البلدة كالأغنام وجمعوهم أمام مقر البلدية ليبلغوهم “بأنهم يعلمون بأنهم لا يرحبون بمقدمهم، لكننا هنا قال قائد القوة مزهوا”، ثم أصدر أمرا باعتقال خمسة رجال، وفي ثوان، كوّمهم الجند في براميل الزبالة، أمام أطفالهم الصغار وزوجاتهم الباكيات.
هذا الصوت أعرفة، قالت عيشة، وغابت قليلا مبحرة في ذاكرتها، لتعود باسم سلامة، جارنا الشرطي.
ـ لكن لماذا؟
ـ يتهمونهم بمعادات المغرب.
ـ وكيف عرفوا أنهم يعادونه؟
ـ يقال بأن إسبانيا سلمت لهم لوائح بأسماء المناضلين وعائلاتهم..
ـ رباه.. ومن هم المناضلون؟ أهي صفة ينعت بها كل من يطمح ويعمل من أجل الاستقلال؟ تبا لهم.. كل الناس هنا كذلك.. ألم يشاهدوا مظاهرات البعثة.. يا إلهي.. نحن متهمون في نظر من باعنا ومذنبون في عقل ومخيلة من اشترانا..
ـ البكاء والتأوه لا ينفعان يا أصدقاء.. قال ذلك شاب، تخيلت عيشة أنها رأت هيئته رغم الظلام الدامس، تقدم ببطء وثبات، نبرة صوته جازمة وكلماته عميقة، وشجاعته آسرة.. أنهى كلامه قائلا: هذا جيش وهذه دولة لا تفهم إلا لغتها.
ـ وما تلك اللغة؟ سأله سلامه.
ـ ألم يقولوا قديما الخير بالخير والبادي أكرم، والشر بالشر والبادي أظلم، يا سلامة؟ والشر في قاموسنا كما تعلم يعني الحرب، وهم أعلنوها علينا.. فحيا على الكفاح.
ساد صمت لثوان قليلة.. لكن الجميع التفتوا صوب نافذة مطبخ صغير انطلقت منه زغرودة تشق عنان السماء.. أضاءت الليل وكسرت ظلام النفوس المضطربة.. ولم تنه عيشة زغرودتها حتى شعرت بيد طفلها يشدها وينادي.. أمي امي أمي…