بقلم: محمد بنو |
في خرجة جديدة من خرجاته السياسية المعهودة التي صاحبت مساره النضالي في إطار جبهة البوليساريو، صرح الرجل الثاني سابقا في الجبهة و وزير الدولة الحالي في حكومة عبد القادر الطالب عمر، لوكالة المغرب العربي للأنباء المستقلة، أنه طلب لقاء ملك المغرب إما في الرباط أو في مراكش، و لم يكشف البشير مصطفى السيد ما إذا كان الطلب باسم الأمانة الوطنية للجبهة أم باسمه الشخصي، و اكتفى بالقول: " ... محمد السادس هو من يمسك بتلابيب كل شيئ هناك، لذا طلبت مقابلته في الرباط أو في مراكش منذ سنوات شريطة أن يكون عبر طائرة خاصة جزائرية". و في تعليقه على ما نشرته وسائل إعلام مغربية بخصوص مفاوضات تجري لاستقطابه بوساطة خلهن ولد الرشيد رئيس ما يسمى بـ "الكوركاس"، قال البشير: " ... الخبر الحقيقي مرهون بالفعل و حصول المقابلة مع ملك المغرب ... و خلهن ولد الرشيد مغلوب على أمره مثله مثل غيره."
إنها مفاجئة الدخول السياسي الجديد بامتياز، و لا غرابة في ذلك، فالرجل عرف بكثرة مفاجئاته السياسية التي تجاوزت حدتها، في أحيان كثيرة، قدرة رفاقه في القيادة الوطنية على تفم مزاجه السياسي ذو الطابع الخاص. لقد أدرك البشير جيدا أنه يحمل من الأمانة حِملين، فكان ذلك حافزا دفعه أكثر من مرة إلى صب جام غضبه في وجه رفاقه بلباقة تارة و بعجرفة تارة أخرى، فكان كثير الهجر لهم، دائم القطيعة مع برامجهم. تلقى الرجل الضربات تلو الضربات، تعرض للنفي الإضطراري خارج المخيمات، خططوا لاغتياله سياسيا أكثر من مرة، لكنه ظل عصيا يقاوم حينا و يصارع أحيانا أخرى. لقد ظل البشير وفيا لقضية شعبه العادلة و لفكر و روح أخيه الشهيد الولي مصطفى السيد. فما الذي حدا به هذه المرة إلى طرق أبواب قصر ملك المغرب؟ أمن أجل مصلحة القضية الوطنية، أم لحاجة في نفس البشير؟
تقلد البشير مصطفى السيد عدة مناصب سامية في الجبهة و في الحكومات الصحراوية المتعاقبة منذ إعلان الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، و لعل أهم تلك المناصب تقلده لحقيبة الخارجية، و الأهم من ذلك قيادته للمفاوضات مع كل من موريتانيا و المملكة المغربية، حيث توج الأولى باتفاقية السلام الموقعة في الجزائر بتاريخ 5 اغسطس/ أوت 1979، و التي انسحبت بموجبها موريتانيا من إقليم واد الذهب و اعترفت بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، و على الرغم من الأهمية الاستراتيجية للإتفاقية في تلك المرحلة، إلا أن السؤال الذي ظل عالقا إلى اليوم في أذهان الصحراويين هو: لماذا رفض البشير العرض الموريتاني القاضي بتسليم إقليم واد الذهب لسلطة الأمم المتحدة؟ و هو الذي يعلم علم اليقين أن قدرات جيش التحرير الشعبي الصحراوي في تلك المرحلة لا تقوى على صد أي هجوم محتمل للقوات المسلحة الملكية الغازية. أما المفاوضات مع المملكة المغربية فقد أبعد عنها في يوليوز 199
ككل السياسيين، للبشير ما له من انجازات، و عليه ما عليه من انزلاقات و إخفاقات. ففي عهده، نشطت الدبلوماسية الصحراوية و أصبحت تؤرق نظيرتها المغربية، فتوالت الاعترافات بالدولة الصحراوية، و ازداد عدد مكاتب الجبهة و سفارات الجمهورية عبر العالم، و فُرض على الراحل الحسن الثاني استقبال أول وفد مفاوض عن جبهة البوليساريو بقصره في مراكش سنة 1989 بقيادة البشير مصطفى السيد. و من أهم ما رشح عن ذالك اللقاء تصريحات صحفية للبشير أدلى بها سنة 2010 نورد منها المقتطفات التالية: "... إننا كنا قريبين من حل مشكلة الصحراء مع الراحل الحسن الثاني ... كانت هناك خطوات هامة في اتجاه حل المشكل نهائيا ... قال لنا الملك: لقد استرجعت الأرض فساعدوني على أن أسترجع قلوب الصحراويين ... قال لنا الحسن الثاني: إذا ما أسفر الإستفتاء عن استقلالكم سأكون أول من يفتتح سفارة لكم في الرباط".
لم يشكل لقاء مراكش آخر موعد للبشير مع قصر ملك المغرب، فقد تلاه لقاء الرباط أيام 4 ـ 5 ـ 6 سبتمبر 1996، حينها قاد البشير الوفد الذي قابل محمد السادس عندما كان وليا للعهد، كما قاد عدة وفود للتفاوض مع المملكة المغربية إلى كل من الجزائر، باريس، مدريد، جنيف، أديس أبابا، لندن، نيويورك و غيرها. فلماذا أبعد البشير بعد كل هذه الخبرة و هذا التراكم السياسي الحافل؟ و من أبعده؟ و ما هي مبررات إبعاده؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، نورد تصريحا للبشير أصدره مباشرة بعد سحب ملف المفاوضات من بين يديه ـ التصريح خص به نشرة "7 أيام" الصادرة بتاريخ 19 يوليوز1997، و التي كانت تصدرها وزارة الخارجية في عهده ـ يقول فيه: "... أما معنى تغيير تشكلة الوفد الصحراوي، فتعني في القاموس العالمي و في العرف الدبلوماسي، وجود خلاف حاد على مستوى القيادة الصحراوية في ما يتعلق بالتقييم و التعاطي، تفسير قد يدنو فيكون تقصيرا في قيادة الوفد، و قد يبتعد حتى يصل حدود التسفيه و التخوين. أما في القاموس المحلي فلك أن تختار ما شئت من التأويلات الرائجة و المروجة، كالتكافؤ في المستويات الشكلية بتغليب صفة رئاسة الوزراء التي يحضر بها عبد اللطيف الفلالي على صفة وزارة الخارجية، و التي كانت هي الصفة التي ارتحنا إليها و أكدنا عليها لنبعد وزير الداخلية المغربي، و نحد من التأويلات المغرضة و الاستغلال الدعائي حول الطبيعة الداخلية غير الدولية للنزاع مع المغرب. مع أن أصحاب هذا التأويل قد سقط عنهم كون رئيس الوزراء المغربي قد حضر إلى لندن قبل الحضور إلى لشبونة، و نسوا أيضا أن رئاسة الوزراء في النظام المغربي مكلفة بادارة الملفات الاقتصادية ليس إلا. أما عن تغييب وزير الخارجية الصحراوي عن اللقاء الثاني فيرجع إلى القرار المفاجئ بتغيير تشكيلة الوفد الصحراوي، و الذي جاء بعد تحريض الممثل بواشطن ـ و الذي تمر عبره المراسلة مع الامم المتحدة في غياب الممثل بنيويورك ـ بما لا أساس له، لجهة القرار لتغيير تشكيلة الوفد، و هو ما حصل بالفعل."
من خلال هذا التصريح يبدو أن البشير لم يكن راضيا بتاتا عن قرار إبعاده عن ملف المفاوضات مع المملكة المغربية، بل اعتبره قرارا مجحفا في حقه.
ظن أصحاب القرار أنهم هذه المرة وجهوا الضربة القاضية التي ستخلصهم من عبئ رفيق دربهم الذي أصبح لا يطاق، لكن الرجل طرق بابا لم يكن ليخطر لهم على بال، توجه البشير صوب الولايات المتحدة الأمريكية و عقد عدة لقاءات مع كبار الموظفين في البيت الأبيض وعدهم خلالها بالسماح بإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في الصحراء الغربية في حالة استقلال الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. إلا أن رد الفعل جاء أعنف، فقد جرد البشير من جواز سفره الدبلوماسي الجزائري، و اضطر إلى الإغتراب القسري خارج المخيمات، حينها تلقى عرضا سخيا من السلطات الموريتانية فرفضه، و ظل لمدة طويلة خارج التغطية يرعى إبله في المناطق المحررة!
فما الذي دفع بالبشير، و منذ سنوات ـ حسب تعبيره ـ إلى طرق أبواب قصر ملك المغرب؟ هل وصل الخلاف بينه و بين رفاقه في الأمانة الوطنية لجبهة البوليساريو إلى حد الطلاق؟ أم أن الرفاق أدركوا، جميعهم، عجز وساطة الأمم المتحدة عن حل نزاع الصحراء الغربية و فضلوا تكليفه بعرض مقترح جديد للحل مباشرة على ملك المغرب؟
مهما يكن الأمر، فأبواب قصر محمد السادس لا زالت موصدة في وجه البشير لأسباب لا يعلمها إلا هم و وسيطه و صاحب القصر!