المصري اليوم |
رصدت هنا في «تندوف» 3 عوامل رئيسية تتحكم في أسلوب حياة الصحراويين ورؤيتهم للمستقبل، الأول: مآسى الحرب والتهجير وذكريات المفقودين والشهداء، الثانى: الانخراط في الجيش حالياً والاستعداد لعودة الحرب، والثالث: قوة المرأة ودورها المركزى في إدارة المجتمع.. وأبدأ بالعامل الأخير..
«المجتمع الصحراوى في الصحراء الغربية، يتميز بكونه مجتمعاً أموياً وليس «بطركياً» (تقصد بطريركياً) أي أبوى.. أي أن المرأة هي المسيطرة بشكل عام في الأسرة، فهى التي تقوم بالأدوار الرئيسية فيه مثل: تزويج ابنتها، تقرير أمور متعلقة بمصير الأسرة، إضافة إلى استقبال الضيوف في غياب الرجل عن الخيمة، ويتركز دور الرجل في الأسرة الصحراوية حول كونه دورا بروتوكوليا لا أكثر» ما بين القوسين نقلته بالكامل من كتاب لباحثة صحراوية هي الدكتورة نازك صالح بعنوان «المرأة الصحراوية ودورها في المجتمع المدنى» حيث وجدته تلخيصاً وافياً ودقيقاً لما شاهدناه على مدار أسبوع هنا في الصحراء، المرأة تتحدث إلينا مرفوعة الرأس، عيناها في أعيننا، نادراً وفى مخيم واحد فقط، أبلغونا أن القيادات النسائية في المكان لا تفضل السلام بالأيدى شاهدنا عرضاً راقصاً لصحراويات اختلط فيه الأداء الفولكلورى للراقصات مع جرأة في الأداء واستعراض مهارات الجسد.
عشنا تجارب ثلاث سيدات ناجحات للغاية في أعمالهن: الأولى هي خديجة حمدى وزيرة الثقافة عضو الأمانة العامة للبوليساريو وهى أيضاً زوجة رئيس «جمهورية الصحراء» محمد عبدالعزيز والتى قالت لنا في لقاء بمكتبها «أنا وجيلى الصحراويات قدمنا إلى هنا في بداية شبابنا.. تحملنا نحن النساء المسؤولية كاملة.. فكل الرجال على الجبهة.. البعض عاد مع الإعلان عن وقف إطلاق النار والبعض استشهد أو تم أسره ــ غالبية النساء ــ وكذلك الرجال ــ كانوا أميين، فإسبانيا على مدار قرن كامل لم تعلم النساء.. وجيلنا تحمل المسؤولية في التعليم بعد أن حصل على شهادات من الجزائر وكوبا وليبيا.. وعدد من الدول التي تعترف بالصحراء. وبالإضافة إلى عرضها المتميز لمعاناة الأطفال والنساء ومطالبتها بدعم عربى إنسانى، تعمقنا مع السيدة خديجة في ظاهرتين مرتبطتين بشكل خاص بالمرأة الصحراوية، الأولى وهى استقبالها للضيوف الغرباء في صحبة عائلتها حتى مع غياب الزوج والأولاد.. تقول: «النساء هنا قادرات على صيانة كرامتهن ولا يتعرضن للعنف بشتى أنواعه.. والضيف في الغالب يكون من مكان بعيد وقد قضى وقتاً طويلاً في حر الصحراء وليس من شيم الصحراويين تركه في خارج الخيمة لأنه لا سبيل آخر أمامه». أما الظاهرة الثانية، فهى عدم اعتبار الطلاق عملاً معيباً اجتماعياً ولا ينتقص من مكانة المرأة أو أهلها، وشرحت لنا كيف أن أهل المرأة المطلقة حديثاً يقيمون لها حفلاً كبيراً يدعى إليه جميع الأصدقاء والمعارف من النساء والرجال.. وفيه ترتدى المطلقة أجمل ما لديها وتقوم الناس بتزيينها وكأنها عروس جديدة.. وتحرص باقى النساء في الحفل على ألا تكون أجمل منها في هيبتها وزينتها.. وتقوم النساء في الحفل بالغناء وترديد الأهازيج.. والحفل إعلان عن أن هذه المرأة حرة، ودعوة للراغبين بالزواج منها أو التقدم لخطبتها، وتقول خديجة: «فى أحيان كثيرة يكون الرجال على علم بأن واحداً بعينه يريد الزواج من صاحبة الحفل، ولذلك من العيب المزايدة عليه.. وعلى هذا الشاب أن يمسك بسكين أو خنجر ويغرسه في قلب الدف الذي تطرق عليه النساء كدلالة على رغبته في الزواج من هذه السيدة».
السيدة الثانية التي التقيناها هي وزير التربية والتعليم على غداء بمقر إقامتنا وبعد أن شرحت لنا النظام التعليمى هنا وكيف أن اللغة العربية هي الأساس في التعامل مع الطلاب إضافة إلى دراسة اللغات الأجنبية خاصة الإسبانية والإنجليزية، وكيف يسافر معظم التلاميذ لقضاء فصل دراسى صيفى في أوروبا خاصة إسبانيا، أعادت شرح ظاهرة حفلات الطلاق وأهميتها في المجتمع الصحراوى وقالت «كثير من الرجال هنا يفضلون المرأة ذات الخبرة التي عايشت وتدربت على صعوبات الحياة الصحراوية.. ولذلك فإن المطلقات هنا حظوظهن أكبر.. وسألناها هل أقيمت لك شخصياً حفلة طلاق من قبل، فابتسمت ونظرت إلى أحد السياسيين المتواجدين معها وقالت: هل طلقت مرتين من قبل أو ثلاث، وأضافت «نعم أقيم لى حفلتا طلاق وأنا سعيدة بهذا التقليد».
السيدة الثالثة التي التقيناها في مقر عملها هي عزة بوبى والية ولاية باجدور دخلنا عليها وسط اجتماع تنظيمى يضم العديد من النساء والرجال هم مسؤولو القطاعات المختلفة في الولاية قالت إنه «اجتماع لجنة جمهورية للولاية» وهدفه تقييم برنامج الأسبوع الصحى، وأضافت «نحن في فصل الصيف ونحرص على تهوية المنازل ونظافتها وجمع القمامة وكذلك المواد منتهية الصلاحية من المتاجر، والولاية بسيطة للغاية ونظيفة، المميز فيها أنها الأقرب إلى تجمع المصالح الحكومية والذى يضم مكاتب الرئيس والبرلمان والتليفزيون وهيئات الإغاثة». وقالت بوبى أنا والية منتخبة.. النساء هنا أثبتن أنهن على قدر المسؤولية في الإدارة.. ولايتنا بلا جرائم ولا أوبئة كما يحدث في مخيمات اللاجئين في العالم.. ولدينا مساواة نطبقها بدقة. وأشارت إلى منزل بسيط ليس ببعيد عن مقر إدارة الولاية وقالت «هذا منزل رئيس الدولة وهو بلا حراسة وبلا أي تمييز ولا أفضلية عن باقى البيوت».
والجيش هنا هو المؤسسة الأهم على الإطلاق.. حيث كل الناس من صغار وكبار، رجال ونساء في خدمته مع وصولنا هنا.. وجلوسنا مع عدد كبير من المسؤولين الغالبية العظمى منهم شاركت في مواجهات حربية مع المغرب، ومع تراكم معلومات ضخم لدينا عن حروبهم وإنجازاتهم على الجبهة بالقياس بعددهم المحدود 20 ألف عسكرى فقط في أحدث الإحصائيات ــ كنا نعتقد أن إنجازاتهم تأتى من هجمات شنوها على طريقة الميليشيات كما هو حال مقاومة حزب الله مع إسرائيل، وأن هناك مبالغات في حديثهم عن غنائم الحرب التي استولوا عليها من المغرب، إلا أن واقعتين غيرتا هذا المفهوم لدينا، الأولى هي زيارتنا للمتحف الوطنى هناك.. والذى لمسنا فيه وللوهلة الأولى اهتماماً وتميزاً عن باقى المؤسسات التي زرنا.. توثيق للتاريخ النضالى منذ بداية الاحتلال الإسبانى، وثائق صحراوية.. أسلحة قديمة استخدمت في مقاومة الاحتلال لكن الأهم هو الصالات الضخمة التي تعرض الأسلحة أوروبية الصنع التي استولوا عليها وبعضها حديث ومتطور للغاية.
الأمر الثانى هو مشاركتنا في عرض عسكرى دعانا إليه وزير الدفاع محمد لمين البوهالى.. وأتيح لنا المرور على القوات والمعدات من سيارة مكشوفة.. وغير هذا الأمر من مفهومنا عن القوات، جيش حقيقى ومعدات متطورة معظمها من الكتلة الشرقية ويبدو أنها مساعدات جزائرية وحجمها يضاهى تسليح فرقة مصرية ولكن تختلط فيها المدرعات بالمدفعية بالدفاع الجوى.
لفت نظرى وجود أعداد ضخمة من العسكريين ــ زيهم واحد تقريباً ولم أستطع التمييز بين رتبهم.. ولكن كلما كانت سيارة الدفع الرباعى التي نستقلها تقترب من نهاية العرض كنت ألاحظ أن العمر السنى للجنود يرتفع وأن هيئاتهم العسكرية أقل انضباطاً من بداية الطابور.. وبعد اجتماعنا مع وزير الدفاع لما يزيد على الساعة وخلال مغادرتنا المكان.. كان غالبية هؤلاء العسكريين قد خلعوا رداءهم الميرى لتظهر ملابسهم التقليدية وليعودوا كمدنيين «هم في جيش الصحراء.. حاربوا من قبل.. لكنهم في الاحتياط الآن.. معظم الرجال جنود عند الحاجة» هكذا قال لى مسؤول عسكرى في طريق العودة.
معتقل سابق في المغرب، أو شقيق الشهيد أو ابنة البطل ــ تعبيرات تكررت على مسامعنا هنا على مدار أسبوع ــ تكرر على مسامعنا أيضاً: سجلنا 638 حالة اختفاء قسرى في السجون والمعتقلات المغربية.. اعترفوا فقط بوفاة 351 منهم.
وقضية المفقودين تركت أثراً بالغاً هنا في الوجدان العام، لمحت ذلك في دواوين الشعر والقصص والروايات الصحراوية التي أهدتنا إياها نانا الرشيد مديرة رامتان للنشر ومنسقة رحلتنا للصحراء. كل العناوين والإهداءات وخواتيم الكتب تتحدث عن «التغريبة» «مرئيات الرجال» و«مرافئ الرمل» و«عالم الشهداء» و«الهجوم الثالث» و«ما حدث في اللجوء».