بقلم: السيد حمدي يحظيه.
الثورة تفجر صوت مريم الخجولة
كل الصحراويين، أينما تواجدوا- بدون استثناء- يعترفون إن
المطربة مريم هي صوتهم كلهم، لكن الكثيرون لا يعرفون أنها أخت ثلاثة شهداء
أبطال.
تقول تلك العجوز التي تعرف عائلة مريم الحسان في الصحراء،
أن مريم حين كانت صغيرة، كانت خجولة وتحب اللعب بالعرائس(العظمات)، وأنها
كانت ضحوكة وحساسة. هذه البنت صاحبة هذه المواصفات( مريم)، لم تخطط في أي
يوم من الأيام أنها ستتحول إلى صوت شعب بأكمله. ربما لم تحلم، أيضا، ولو في
الخيال أن شعبها كله سيحبها ويقدس صوتها ويعترف بموهبتها يوما ما، ولم
تتصور أنها ستكون سفيرة لقضيتها في المحافل الدولية. كانت شابة مرحة، تحب
الحياة، مبتسمة، لكن في نفس الوقت كانت تسمع الناس يتحدثون حولها عن الثورة
والنضال والصحراء والصحراويين. بدأت تغني بخجل في البداية ثم، وفجأة، بعد
أول أغنية غنتها للثورة تفجرت الموهبة والصوت مثل بركان. لكن ليس الموهبة
وحدها، إنما، أيضا تفجر حب الوطن وحب الشعب الصحراوي والقضية الذي كان يعيش
في صدرها. حب كبير سكن حنجرتها وصوتها منذ البداية فراحت تنشره في أي مكان
تستطيع أن تصل إليه. في نفس الوقت الذي بدأت هي فيه تغني للثورة بدأت
الحرب. وحين كانت تخوض معركة الفن وتغني بحماس وترفع علم وطنها في سماء
العالم، كان إخوتها في الحرب يخوضون المعارك بحماس أيضا؛ يتقدمون الصفوف
والرجال ويقاتلون ببسالة وشجاعة نادرة. كانت هي تقاتل بالكملة والصوت
واللحن وهم يقاتلون ببنادقهم ورصاصهم وأرواحهم، ويقفون مثل الأسود في تماس
مع خط النار. العائلة كلها كانت تقاتل، لكن القتال ليس لعبا دائما. الوقوف
في خطوط النار يوميا والقتال بصدور عارية له ثمن كبير دائما في الأخير. بدأ
الإخوة الأبطال يستشهدون واحدا واحدا: محمد سالم، الخليل ونافع. ثلاثة
إخوة أبطال؛ ثمن كبير لم يدفعه ألا القليل من الصحراويين. قدمت مريم
للصحراء والصحراويين قربانا غاليا، ليس فقط من عرقها وتعبها وجهدها إنما من
دم إخوتها الذين استشهدوا. في حقيقة الأمر إن كل النساء الصحراويات دفعن
ثمنا غاليا في حرب التحرير من أجل الحرية. كلهن تقريبا دون تمييز فقدن
شهيدا أو أكثر( أخ، زوج، أب، قريب) في المعركة، أو سُجن لهن قريب ومات في
السجن، لكن مريم ووالدتها هن من القليلات اللاتي فقدن أكثر من أخ\أبن في
المعركة والحرب. فقدت مريم ووالدتها في حرب التحرير ثلاثة إخوة\أبناء أعزاء
عليهما. ولم يكونوا مقاتلين عاديين؛ كانوا، حسب شهادات الذين عرفوهم،
أبطالا وأسود معركة وبكاهم جميع كل الذين قاتلوا معهم أو عرفوهم..
إن فقدان عزيز في الحرب يجعل عائلته تحزن حزنا عظيما، لكن
فقدان ثلاثة إخوة أبطال يجعل شعب بكامله يحزن عليهم ويبكيهم مع عائلتهم.
هذا ما حدث حين أستشهد إخوة مريم الثلاثة؛ كل الشعب الصحراوي بكاهم معها؛
كل المقاتلين الذين عرفوهم وقاتلوا معهم لازالوا يذكرونهم ويذكرون
بطولاتهم.
كان احتلال الوطن وفقدان الإخوة الأعزاء عاملا حاسما في
تفجير حنجرة مريم لتغني أكثر وتكرس نفسها ووقتها وحياتها كلها للغناء
الملتزم الثوري وللقضية وللشعب وللشهداء وللصحراء التي “ما تنباع”.. كان
وَقْعُ فنها على الغزاة مثل وقع رصاص إخوتها ورفاقهم المقاتلين في المعركة.
فبالرغم من فجيعة استشهاد الإخوة المؤلم والفادح فإن ذلك لم يجعلها تحبس
نفسها مع الحزن والدموع في غرفة واحدة وتعتزل الحياة. على العكس؛ كان ذلك
الحدث حافزا لها كي تثأر من الغزاة لأستشهاد الإخوة والرفاق، وتثأر
لصحرائها التي “ماتنباع” من محتليها. فتخليدا لأولئك الأبطال الراحلين،
وذلك الوطن المحتل بدأت المطربة مريم تغني وبصوت أعلى هذه المرة وفي كل
المحافل؛ حملت علم بلدها في يدها وحملت قضيتها وذكرى إخوتها في قلبها وراحت
تغني وتغني في كل مكان تستطيع أن تصل إليه. جالت كل العواصم والمدن
الكبيرة؛ غنت أمام كل شعوب المعمورة. مع الوقت صار صوتها أكثر جرأة، أقوى
تأثيرا من ذي قبل، أكثر وعيا. كان يتحرر أكثر، ويصدح عاليا متحديا صمت تلك
الصحراء وصمت العالم. صوتها أيقظ كل ما يوجد على سطح الصحراء: الرمال،
الجبال، الصمت وحتى الموتى. كانت تغني وحدها هي وصوتها وقناعتها وحبها
لقضيتها وشعبها؛ تغني دون مساعدة من أي كان؛ كان سلاحها الوحيد هو صوتها
والعهد الذي قطعته لإخوتها ولكل الذين استشهدوا معهم في الحرب، وللوطن
المحتل وللصحراويين. كان الغناء هو سلاحها الذي لا تنفذ ذخيرته؛ كان صوتها،
حين يتردد في تلك الصحراء أو فوق أعلى وأكبر المنصات العالمية، هو البلسم
الذي يجعلها تحس، حين تبقى وحدها، أنها أوفت لإخوتها وللشهداء وللصحراء
ذاتها. في وقت قصير أصبحت هي السفيرة، هي المبعوثة، حاملة اللواء، حارسة
الفلكلور الصحراوي. في الأخير بعد عناء ومشقة وصلت إلى القمة في الوطنية
وفي الفن وفي النضال وحب الوطن.
لولا صوتها وفنها وآلاف الأغنيات التي غنت كانت الإذاعة
الصحراوية قد ماتت منذ زمن؛ كان الشعب الصحراوي بقى أخرسا وأبكما وغائبا عن
المواعيد والمحافل الدولية وما كان أحد، البتة، سمع صوته. كانت أغنياتها
الوطنية التي لا تحصى ولا تعد هي التي تبعث الروح في الإذاعة الوطنية
الصحراوية، وتحمل الناس على أجنحة من نغم إلى أيام النضال والثورة.. أكثر
من نصف ما يُقدم في الإذاعة من أغنيات وألحان هي، في الكثير من الأحيان،
لمريم وحدها. هي التي بعثت الأغنية الصحراوية من جديد، ولولا هي لبقيت تلك
الأغنية العريقة دفينة رمال الصحراء والنسيان إلى الأبد.
إن طريق مريم كمطربة وكصوت لشعب ووطن لم يكن معبدا بالورود.
كانت رحلتها، في الظروف التي نعرف جميعا، تحديا حقيقيا. كان قدرها أن تكافح
من أجل القضية الصحراوية، من أجل الوطن ومن أجل مجد شعب صغير منسي في
التاريخ والجغرافيا اسمه الشعب الصحراوي. القدر والفن وحبها لشعبها دفع
مريم ذات يوم أن تكون هي نفسها، وليست واحدة أخرى أو واحد آخر، الناطقة
بأسم كل الشعب الصحراوي.
كان فن مريم يعكس أصواتا أخرى نابعة من داخلها؛ أصوات بعضها
يقول لها “غني، غني بصوت أقوى”، وبعضها يقول لها ” قدرك إن تكوني صوت
الصحراء وشعبها؛ صوت المجد”.
إن قدر مريم مع الغناء كان معركة ضد النسيان والاحتلال وضد
المعاناة. كان طريقها نحو قمة هرم المجد ملئا بالشوك. كان عليها أن ترفع
الكثير من التحديات: وطن محتل، شعب منسي في الصحراء، ثقافة في طريقها إلى
أرشيف النسيان، ظروف مؤلمة وأكثر من ذلك أحداث استشهاد إخوتها ومعركتها ضد
المرض. إن كفاح مريم من أجل تحرير الوطن المحتل ومن أجل الوفاء للقضية التي
سقط من أجلها إخوتها وأبناء شعبها جعلها تصبح قوية وتكرس حياتها لقضيتها.
نست حياتها الشخصية بشكل مطلق. لم يكن عندها متسع من الوقت للعائلة ولا كي
تغني كما تغني المطربات في العالم؛ لم تغني للحب وللجمال أو للورد
والأعراس. كانت ربما تشعر أن الغناء للتسلية والمؤانسة والوطن تحت الاحتلال
هو نوع من النسيان للشهداء ولمعاناة الشعب. إن مريم القادمة من قلب
الصحراء الغربية التي تغني بلغة محلية غناء ملتزما ثوريا، استطاعت أن تصعد
أعلى المنصات في أكبر المدن وان تُسمع صوتها وصوت شعبها لكل العالم. بفضل
فنها وصوتها عرف العالم من هو الشعب الصحراوي، وأين هي الصحراء الغربية في
الخارطة، ولماذا يكافح الصحراويون. قَبْلَ مريم لم يضع أي صحراوي رجله على
مسارح أمريكا وأستراليا وألمانيا والسويد ك وبرلين ودلهي واستراليا، ولم
يسمع أي أحد صوتا قادما من فجاج الصحراء الغربية ومن مخيمات اللاجئين. دخلت
مريم إلى محراب المجد من أوسع الأبواب بصوتها وفنها.
مريم صوت الصحراويين وأخت الشهداء
ليس سخرية قدر، طبعا، إن تتحول امرأة إلى صوت وطن؛ إلى صوت كل
الصحراويين؛ إلى صوت شعب بأكلمه أينما تواجد: في مخيمات اللاجئين، في
المدن المحتلة، في البادية وفي الشتات. كل الصحراويين يعترفون بأن صوت
المطربة مريم الحسان هو صوتهم كلهم. هي أيضا- مريم- قد تكون أشهر مطربة
عرفها تاريخ الصحراء كله، تاريخ الصحراء الغربية، وهي اشهر من قاوم بالكلمة
واللحن وضحى تضحيات كبيرة من أجل وطنه. إن صوت مريم الحسان كان هو، ربما،
الصوت الوحيد الذي استطاع أن يهزم صمت الصحراء الرهيب الذي لا نهاية له.
ولم يهزم صوتها فقط الصحراء إنما هزم صمت الحمادة وصمت اللجوء الرتيب
الرهيب. كل الصحراويين يعرفون مريم ويطربون لصوتها المتفرد الذي لم يعرفون
له مثيلا في تاريخهم.
إن قصة حياة مريم أو، بتعبير آخر، قصة صوت الصحراويين؛ قصة
صوتها ونغمها لم تكن قصة حياة أية مطربة عاشت حياتها في برج عاجي أو في
مدينة من الزجاج الأزرق. لم تكن أيضا قصة حياة مطربة تجمع المال من فنها
وأغنياتها وحفلاتها. كانت مريم واحدة من النساء الصحراويات القليلات اللاتي
دفعن ثمنا غاليا من أجل الدفاع عن القضية الصحراوية، عن الوطن وعن الشعب
الصحراوي.
إذا كانت مريم فعلا قد هزمت صمت الصحراء الرهيب بصوتها
وانتصرت عليه؛ إذا كانت غنت للصحراء لتسلي رعونتها بصوتها، فإنها من جهة
أخرى أحبتها بكل ما تستطيع وأحبت سكانها. .
ولم تخوض المطربة النابهة والموهوبة مريم معركة شرسة ضد صمت الصحراء فقط، إنما خاضتها أيضا الاحتلال والنسيان.
وتكريما لها وتتويجا لعطائها ولفنها الذي لا ينضب كرَّمها
شعبها تكريما غير عادي. لم يكن التكريم، مثلما قد يتصور أي أحد، عبارة عن
تقديم جوائز أو باقات من الزهور ولا حتى وضع الذهب والأساور في عنقها. كان
تكريما بسيطا، غاية في البساطة: أطلق عليها شعبها لقب ” مريم، صوت
الصحراويين، أخت الشهداء”. التكريم لم يتم في حفل عام أو في مناسبة؛
التكريم أقامه الصحراويون لها في قلوبهم وفي خيامهم المتواضعة وفي مناطقهم
المحتلة بدون بروتوكول، وبدون حضور شخصيات رسمية ولا مراسيم. إذا سألت أي
صحراوي الآن من هو صوت الشعب الصحراوي سيقول لك: مريم الحسان. لقب سيبقى
خالدا في التاريخ .. الآن تحمل مريم على جبينها هذا الوسام الخالد الذي لا
ينفق ولا يضيع ولا يشوهه الزمن ولا يُسرق: صوت الصحراويين الخالد وأخت
الشهداء.