الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

الشاعرة النانه و سنين الجمر الطويلة

 

ألقت الشاعرة النانه لبات الرشيد بعض نوادرها الشعرية بين جمع من متذوقي الشعر في قاعة بالمركز الثقافي المصري وسط العاصمة نواكشوط. وكان ذلك مناسبة لاستعراض جزء من مكنونات شعر النانه من خلال هذه القراءة السريعة.

تشكل نصوص  الشاعرة الصحراوية، النانة لبات الرشيد، "حالة حداثية"، بكل ما تعنيه كلمة "حداثة" من معنى.  وتظل نصوصها مفتوحة على أكثر من دلالة، قابلة لأكثر من قراءة، بحكم الهم الوطني والقضايا التي تعالجها الشاعرة.

 وبالرغم من السياقات القومية، التي يمكن أن يُتناول النص في إطارها، وحضور قضية المرأة في ما تكتبه هذه "المرأة" من شعر، وارتسام هم الانسانية بشكل عام في نبرة خطابها، فإن القضية الوطنية، تظل السياق الاهم لقراءة نصوص الشاعرة باعتبارها تشكل أبرز نقاط التماس بين الشاعرة، التي تعيش في مخيمات "تيندوف"، والمضمون الشعري.

 

تقول الشاعرة في قصيدتها : "وجع":

 

جئت...

جئتكم
احمل حلمي الخديج
وعري هودجي من بقايا عروبتي
وجئت اشكو ظلم قابيل
فهل من آدم ؟
وهل من قربان آخر يجزي عني مضرتي ؟

فتكشف عن حس وطني مرهف، مفعم بالإحساس بجراح الوطن، الذي اختارت  ان تعبر عنه بــ"هودجي الخديج" بكل ما يحيل اليه "الهودج" باعبتاره رمزا لـصيانة للمرأة، وإكبارها،  لكن هذا الهودج يبدو جريحا، ما يعني أن حِمى الصحراء انتــُـهك.. إنها تشكو "ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة" ،  "ظلم قابيل"  بالذات، فهل في الافق من خلاص؟ "هل من آدم" آخر لنعود متذكرين أواصر القربى، حتى لا يظلم بعضنا البعض؟ أم هل من قربان يحيلنا الى القيم الروحية المثلى، وتجنب الظلم والبحث عن كلمة سواء بيننا؟..


انا امرأة.. كتبت الشعر
من شقاوتي
لم أقرضه لحبيب يداعب جديلتي
لم أكتبه في حضر زاهر
ولا في بدو ...
حيث السمار والأحبة
لكن كتبته بمقل بائسة
وصحائف صنعتها من كآبتي
وكتبته مذبوح فيَ عمقه
ومختوم بأقسى فصول غربتي.

لا يفوت الشاعرة النانه (التي وصفها كاتب موريتاني بـ"لؤلؤة القوافي")  أن  تحاول إبراز القيمة الحقيقية للأدب.. إنه ليس الا انعكاسا للواقع، فهي كتبت الشعر "من شقاوتها".. ان الشعر، بالنسبة لها ، هو قمة الارباط بين الشاعر وواقعه، فهي لم تكتبه لمئاربها الخاصة ، ولم تتخذه يوما وسيلة للتسلية، لكنها كتبته لـ وبـ "مُـقل بائسة" وكتبته مثخنا بجراح الذات؛ فكان "مذبوحا في عمقه"، كما هو حال الوطن الذي يتعرض للتشكيك في هويته.


وجئت .. و جئتكم
وكم من معتصم مخذول في مدينتي
وكم من ليث
وضرغام
وكم من خالد ... ومن يوسف
وكم من "مرابط" أبكته مذلتي
وجئت أريق الحزن الذائع صيته
وازهق عمر الصبر والضراوة
لم يبق من كحلي الا وعائه
والعطر ذل وانتفى
وسرق خرزي بألوانه
لم يبق لي خلخال.. لم تبق اسورتي
لم يبقى لي شيء
الا وطنيتي.

"وامعتصاه": نداء تكاد تطلقه "النانه"، الى كل أحرار العالم، الذين اختارت لهم سمى مفعمة بالابطال المعروفين في التاريخ العربي والاسلامي، من خالد بن الوليد، وحتى يوسف بن تاشفين، مرورا بالمعتصم، الذي هو "بيت القصيد"، في الاستغاثة الانوثية المنبعثة من كبد الظلم، المبحوحة جراء الشعور بالذل والهوان، لكن الكارثة أن يبكي هؤلاء مجارين هذه المنكوبة في واقعها دون أن يقدموا شيئا غير الدموع.

 

"لم يبق من كحلي الا وعاؤه" و" العطر ذل وانتفى": أبلغ تعبير عن الواقع. إن الموروث الحضاري لا يزال في أوعيته رغم ما يتعرض له من محاولات الطمس، التي تتعرض لها كــُحل النانه، تحت سيل الدموع، لكن الموروث الصحراوي لايزال في الذاكرة الجمعوية للمجتمع الصحراوي، كما لا يزال كحل النانة في وعائه، ومهما تكن محاولة الاستلاب فإن "الوطنية" كإيمان  "علق لا يباع ويشترى" ، فلا تمكن مصادرته، هكذا اختارت النانة ان تعبر :

لم يبق لي شيء
الا وطنيتي.


وجئت .. جئتكم حافية
اعترف اني امرأة
واني أنجبت الأشبال والنمور والصقور
واني عبرت دروب النار بهم
وعبدت لهم بدمعي مسالك الشهامة
اعترف أني امرأة
واني اتقنت دروس الأمومة
ونقشت في ذواكرهم تاريخ العروبة
فاين الذين أنجبتهم ؟
وأين الذين علمتهم ؟
وأين الذين زكيتهم لوطن مسلوب
مهدور الشعاب والأودية ؟

 

تختم النانة قصيدتها "وجع" بتساؤلات حائرة، حيرة المواطنة التي يتعرض وطنها للسلب، انها تتساءل عن رجال الصحراء الذين دربتهم هذه الارض بحكم طبيعتها القاحلة والصعبة، وبحكم ثقافتهم العربية التي تعبتر الشهامة من أبجدياتها، فأين الذين أنبتتهم الصحراء؟ وأين الذين علمتهم الصحراء؟.

 

 

عودة الجاهلية

 

أف لنزق القبيل
لا زال يقصم نبال بكر
ويذكي للبسوس الفتيلة

أف للقبيلة وقد نحرت
لأزلامها الوضيعة والجليلة

أف للقبيلة
عندما تستل من الساعد
ساعده الخليل

أف لها من حلة
نسجتها جاهلية عليلة

أف لها.. بيادق
ينسيها القمح
سنين الجمر الطويلة

تعكس قصيدة "الجاهلية" للنانة لبات الرشيد القيم التقدمية التي تؤمن بها الشاعرة والمتمثلة في الايمان بالعام على حساب ماهو ذاتي، الايمان بالوطن، الذي يحيل للفكر التقدمي في مقابل القبيلة و الرجعية، هكذا تؤمن الشاعرة حين تعلنها حربا لا هوادة فيها على القبيلة، من خلال صرخة مدوية لا زمتها "اف للقبيلة"، وتحيل الشاعرة الى المئاسي التي كان يعيشها الجاهليون، ابان كانت القبيلة بالنسبة لهم الاطار الوحيد الذي يجد فيه الفرد ذاته، وتصور الشاعرة القبيلة باعتبارها شرا كلها.. انها تفرق بين الانسان واخيه الانسان عبر انفجار  غاضب تجاه القبيلة يترجمه قولها :

" تستل من الساعد
ساعده الخليل".
.

لك الله يا وطني
مناجل في كبدك
وأخرى في رحمك تحصد
الإخاء والفضيلة
لك الله يا وطني
نفشوا سحب الدماء من حولك
وأوغروا في بطنك قلوبا
أحسنتك التبجيل

لك الله يا وطني
يقايض السيف فيك بالجراب
كأنما قد ولت عنك حقب الجدب وتحس الشاعرة الخطر الذي يتهدد الوطن، من الداخل والخارج ، ولكنه رغم ذلك يظل شامخا، فتفيض اعجابا من خلال لازمة جيدة هي "لك الله ياوطني"، لك الله ياوطني حين يحاول الماكرون سحق قيم الاخاء في رحمك، وتتعرض من الداخل لمناجلهم التي تمرق من كبدك، و"لك الله ياوطني" حين يقايض فيك الجراب بالسيف، حين يحاول الباحثون عن مصالح انانية بيعك في سوق النخاسة السياسية.

وعَوْدا على بدء تعود الشاعرة لتقول: سحقا للقبيلة بكل تمثلاتها، بأذنابها وصراعاتهم النتنة، فسحقا للقبيلة التي على اساسها يفرق الوطن الواحد فــ"تستباح تيرس"، و"ينهار زمور".


والعويل

 

سحقا للقبيلة
سحقا للبطون التي تبقر
أذنابها البطن الأصيل
سحقا للأذناب متى اشتدت
مزقت أخاطيطها بداخلنا
كل جميلة
سحقا للقبيلة التي باسمها
"تستباح "تيرس"
و ينهار "زمور" ذليل
......... ........... .....
ولا تزال الشاعرة وفية لابي ثورة البوليزايريو الولي مصطفى السيد الذي حذر من داء القبيلة، فتعود لتقول:  فسحقا للقبيلة حين يحاول الاحياء بعث الماضي فيسفهون موتاهم، ويعكرون الواقع حين يبعثون داحس والغبراء، بل يذهبون الى صراعات الاخوين قابيل وهابيل التي تعتبر اول صراع بين الانسان واخيه الانسان.


هل هم سعداء الآن ؟
فتية بسطوا صدورهم
رحبة صقيلة
هل تروقهم حور العين ألان؟
وهل يهنئون بأنهار اللبن والسلسبيل
سحقا للذين اقضوا مضاجعهم
وعكروا صفو خلدهم الظليل
ألا سحقا للذين سفهوا ميتتهم
وكأنهم قاتل وقتيل
ألا سحقا للذين لم يلعنوا بعد
داحس والغبراء
ولم ينسوا بعد طيش قابيل
ألا سحقا للقبيلة
تغتال في الأنبياء وحيهم
وتهدي الشياطين حينا
جبة النبيل

........ ........... ........

ما جدوى الغناء لك يا وطني
والكل ينفخ لعشيرته بوقا
ويقرع لها طبول

ما جدوى البكاء فيك يا وطني
لم تزل بعد نازفا
وهم عن وجعك عابرون
كأي دخيل.

 

 

وتتساءل النانة في نهاية قصيدتها: " الجاهلية"، عن جدوى الغناء للوطن، ما دام "كل يغني على ليلاه"، قارعا لقبيلته طبلا ،ونافخا بوقا في سؤال عاتب على المجتمع، مطالبا بتبني الفكر الوطني الرامي الى رمي القبيلة واتخاذ الوطن مأوى للجميع.

 

قراءة /محمد عبد الله ولد أبابه لموقع الحرة الموريتاني